سورة يونس - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


قوله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأوّل: أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله {بَيَاتًا} أي: وقت بيات، والمراد به: الوقت الذي يبيتون فيه، وينامون ويغفلون، عن التحرز، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منتصب على الظرفية، وكذلك نهاراً: أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، والضمير في {منه} راجع إلى العذاب، وقيل: راجع إلى الله، والاستفهام في: {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} للإنكار المتضمن للنهي، كما في قوله: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم: أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب، وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط بحذف الفاء، وقيل: إن الجواب محذوف، والمعنى: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه. وقيل: إن الجواب قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} وتكون جملة {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. والأوّل: أولى. وإنما قال: {يستعجل منه المجرمون} ولم يقل: يستعجلون منه؛ للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام؛ لأن من حقّ المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه، فكيف يستعجله؟ كما يقال لمن يستوخم أمراً إذا طلبه: ماذا تجني على نفسك.
وحكى النحاس، عن الزجاج، أن الضمير في {مِنْهُ} إن عاد إلى العذاب كان لك في {مَاذَا} تقديران: أحدهما: أن تكون {ما} في موضع رفع بالابتداء، و(ذا) بمعنى الذي، وهو خبر ما، والعائد محذوف. والتقدير الآخر: أن يكون {مَاذَا} اسماً واحداً في موضع رفع بالابتداء، والخبر ما بعده، وإن جعل الضمير في {مِنْهُ} عائداً إلى الله تعالى، كان {مَاذَا} شيئاً واحداً في موضع نصب ب {يستعجل} والمعنى: أيّ شيء يستعجل منه المجرمون: أي من الله عزّ وجلّ.
ودخول الهمزة الاستفهامية في {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ} على ثم كدخولها على الواو والفاء، وهي لإنكار إيمانهم، حيث لا ينفع الإيمان، وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته، مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به، وجيء بكلمة {ثم} التي للتراخي؛ دلالة على الاستبعاد. وجيء ب {إذا} مع زيادة ما للتأكيد؛ دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته، ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم، والمعنى: أبعد ما وقع عذاب الله عليكم، وحلّ بكم سخطه وانتقامه آمنتم، حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً، ولا يدفع عنكم ضرّاً.
وقيل إن هذه الجملة: ليست داخلة تحت القول المأمور به، وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم، وإزراء عليهم. والأول: أولى. وقيل: إن ثم هاهنا، هي بفتح الثاء، فتكون ظرفية بمعنى هناك. والأوّل: أولى.
قوله: {الآن وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} قيل: هو استئناف بتقدير القول، غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون: أي بالعذاب تكذيباً منكم واستهزاء؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء، ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول: التوبيخ لهم، والاستهزاء بهم، والإزراء عليهم، وجملة {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في محل نصب على الحال، وقرئ: {آلان} بحذف الهمزة التي بعد اللام، وإلقاء حركتها على اللام.
قوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} معطوف على الفعل المقدّر، قيل: آلآن، والمراد منه: التقريع والتوبيخ لهم: أي قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان: إن هذا الذي تطلبونه ضرر محض، عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك، ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم: ذوقوا عذاب الخلد: أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع، والقائل لهم هذه المقالة، والتي قبلها، قيل: هم: الملائكة الذين هم: خزنة جهنم. ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص، أو المؤمنون على العموم {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} في الحياة من الكفر والمعاصي. والاستفهام للتقرير، وكأنه يقال لهم هذا القول عن استغاثتهم من العذاب، وحلول النقمة.
ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة، والجوابات عن أقوالهم الباطلة: أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب، فقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} أي: يستخبرونك عن جهة الاستهزاء منهم والإنكار، أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل، وهذا السؤال منهم جهل محض. وظلمات بعضها فوق بعض، فقد تقدّم ذكره عنهم مع الجواب عليه، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول، ولا يقال له؛ وقيل: المراد بهذا الاستخبار منهم هو: عن حقية القرآن، وارتفاع حق على أنه خبر مقدّم. والمبتدأ هو الضمير الذي بعده، وتقديم الخبر للاهتمام، أو هو مبتدأ، والضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر، والجملة في موضع نصب ب {يستنبئونك} وقرئ: {آلحق هو} على أن اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل.
قوله: {قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ} أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة جواباً عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء، أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء: إي وربي إنه لحق، أي نعم، وربي إن ما أعدّكم به من العذاب لحق ثابت كائن لا محالة.
وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه: الأوّل: القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم. الثاني: دخول إن المؤكدة؛ الثالث: اللام في لحق؛ الرابع: إسمية الجملة، وذلك يدلّ على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرّد إلى الغاية التي ليست وراءها غاية، ثم توعدهم بأشدّ توعد، ورهبهم بأعظم ترهيب، فقال: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي: فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع، والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم، أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه.
ثم زاد في التأكيد، فقال: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي: ولو أن لكل نفس من الأنفس المتصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به ما في الأرض، من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة، والذخائر الفائقة لافتدت به: أي جعلته فدية لها من العذاب، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ} [آل عمران: 91] وقد تقدّم قوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} الضمير راجع إلى الكفار، الذين سياق الكلام معهم. وقيل: راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس. ومعنى {أسروا}: أخفوا، أي لم يظهروا الندامة بل أخفوها، لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم، وذهب بتجلدهم، ويمكن أنه بقي فيهم، وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا، فأسرّوا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون، وقيل: أسرّها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم، خوفاً من توبيخهم لهم، لكونهم هم الذين أضلوهم، وحالوا بينهم وبين الإسلام؛ ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]. وقيل: معنى {أسروا}: أظهروا. وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها، ومنه قول كثير:
فأسررت الندامة يوم نادى *** بردّ جمال عاضرة المنادى
وذكر المبرد في ذلك وجهين: الأوّل: أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة، وهي الإنكسار، واحدها: سرار، وجمعها: أسارير، والثاني: ما تقدّم. وقيل معنى: {أَسَرُّواْ الندامة} أخلصوها؛ لأن إخفاءها إخلاصها، و{لَّمّاً} في قوله: {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} ظرف بمعنى حين منصوب بأسرّوا، أو حرف شرط جوابه محذوف للدلالة ما قبله عليه {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط} أي: قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين، أو بين الرؤساء والأتباع، أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين. وقيل: معنى القضاء بينهم: إنزال العقوبة عليهم، والقسط: العدل، وجملة {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} في محل نصب على الحال، أي: لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حلّ بهم، فإنه بسبب ما كسبوا.
وجملة {أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض} مسوقة لتقرير كمال قدرته؛ لأن من ملك ما في السموات والأرض، تصرف به كيف يشاء، وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات، قيل: لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله، وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به. وقيل: لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه، يتصرّف به كيف يشاء، وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه تنبيه للغافلين، وإيقاظ للذاهلين، ثم أكد ما سبق بقوله: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: كائن لا محالة، وهو عامّ يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجاً أوّلياً، وتصدير الجملة بحرف التنبيه، كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين {ولكن أَكْثَرَ الناس} أي: الكفار {لاَّ يَعْلَمُونَ} ما فيه صلاحهم، فيعملون به، وما فيه فسادهم فيجتنبونه {هُوَ يُحْيىِ وَيُمِيتُ} يهب الحياة ويسلبها. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الدار الآخرة، فيجازي كلاً بما يستحقه، ويتفضل على من يشاء من عباده.
قوله: {ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} يعني: القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه، والوعظ في الأصل: هو: التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب، والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضرّه، و{مِنْ} في {مّن رَّبّكُمْ} متعلقة بالفعل، وهو {جاءتكم} فتكون ابتدائية، أو متعلقة بمحذوف، فتكون تبعيضية {وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور} من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين، لوجود ما يستفاد منه في من العقائد الحقة، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة، والهدى: الإرشاد لمن اتبع القرآن، وتفكر فيه، وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة، والرحمة: هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم الله بها عباده، فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها، فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم، فقال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} المراد بالفضل من الله سبحانه: هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر، والرحمة: رحمته لهم.
وروي عن ابن عباس أنه قال: فضل الله: القرآن، ورحمته: الإسلام.
وروي عن الحسن والضحاك، ومجاهد وقتادة، أن فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. والأولى: حمل الفضل والرحمة على العموم، ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أوّلياً، وأصل الكلام: قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} عليه، قيل: والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدّر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح.
وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقلّ في الفرح، والفرح: هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب، وقد ذمّ الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76] وجوّزه في قوله: {فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] وكما في هذه الآية، ويجوز أن تتعلق الباء في {بفضل الله وبرحمته} بقوله: {جَاءتْكُمُ} والتقدير: جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك: أي فبمجيئها، فليفرحوا، وقرأ يزيد بن القعقاع ويعقوب {فلتفرحوا} بالفوقية، وقرأ الجمهور بالتحتية، والضمير في {هو خير} راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة، أو إلى المجيء على الوجه الثاني، أو إلى اسم الإشارة في قوله: {فَبِذَلِكَ} والمعنى: أن هذا خير لهم مما يجمعون من حطام الدنيا.
وقد قرئ بالتاء الفوقية في {يَجْمَعُونَ} مطابقة للقراءة بها في {فلتفرحوا}.
وقد تقرّر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة، جاءت هذه القراءة عليها، قورأ الجمهور بالمثناة التحتية في يجمعون، كما قرءوا في {فليفرحوا}.
وروي عن ابن عامر أنه قرأ بالفوقية في {يجمعون} والتحتية في {فلتفرحوا}.
وقد أخرج الطبراني، وأبو الشيخ، عن أبي الأحوص، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فوصف له الخمر، فقال: سبحان الله! ما جعل الله في رجس شفاء، إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل، فهما شفاء لهما في الصدور، وشفاء للناس.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، قال: إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور، ولم يجعله شفاء لأمراضكم.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتكي صدري، فقال: «اقرأ القرآن، يقول الله: شفاء لما في الصدور».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن واثلة بن الأسقع، أن رجلاً شكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وجع حلقه، قال: «عليك بقراءة القرآن والعسل، فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء».
وأخرج أبو داود، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبيّ قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتاء يعني الفوقية، وقد روى نحو هذا من غير هذه الطريق.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} قال: «بفضل الله: القرآن، وبرحمته: أن جعلكم من أهله».
وأخرج الطبراني في الأوسط، عن البراء، مثله من قوله.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الشعب، عن أبي سعيد الخدري، مثله.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس، في الآية قال: بكتاب الله بالإسلام.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عنه قال: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عنه أيضاً قال. بفضل الله: القرآن، وبرحمته: حين جعلهم من أهله.
وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدّمة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام.


أشار سبحانه بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله} إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدّم في إثبات النبوّة، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض، وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء، مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم، فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، ومعنى {أرأيتم}: أخبروني، و{مَا} في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني، وقيل: إن {ما} في محل الرفع بالابتداء وخبرها {آلله أذن لكم} و{قل} في قوله: {قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ} تكرير للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب ب {أرأيتم} والمعنى: أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق، فجعلتم منه حراماً وحلالاً، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} وعلى الوجهين، فمن في {منه حراماً} للتبعيض، والتقدير: فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً، وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز؛ ومعنى إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلوّ، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى، لكل شيء فيه.
وروى عن الزجاج أن {ما} في موضع نصب ب {أنزل} وأنزل بمعنى خلق، كما قال: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] {وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وعلى هذا القول والقول الأوّل يكون قوله: {قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ} مستأنفاً، قيل: ويجوز أن تكون الهمزة في {الله أَذِنَ لَكُمْ} للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، وإظهار الإسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء.
وفي هذه الآية الشريفة ما يصكّ مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي. ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعاً مستقلاً. ما عمل به من الكتاب والسنة، فهو المعمول به عندهم. وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبّداً بهذه الشريعة، كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها، كما هو محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدّى ما عليه، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة، ودليلاً معمولاً به.
وقد أخطئوا في هذا خطأ بيناً. واغلطوا غلطاً فاحشاً. فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتمد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقوّم هذا الباطل، فهو من الجهل العاطل، اللهمّ كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.
ثم قال: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة} أي: أيّ شيء ظنهم في هذا اليوم، وما يصنع بهم فيه، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحلّ بهم من عذاب الله، و{يوم القيامة} منصوب بالظنّ، وذكر الكذب بعد الافتراء، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى بن عمر {وما ظنّ} على أنه فعل: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات، وطرفة من الطرفات.
قوله: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و{ما} نافية، والشأن: الأمر بمعنى القصد، وأصله الهمز، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب: ما شأنت شأنه: أي ما عملت عمله: {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآن} قال الفراء والزجاج: الضمير في منه يعود على الشأن، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف: أي تلاوة كائنة منه، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم؛ والمعنى: أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدّث القرآن، فيعلم كيف حكمه، أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن.
وقال ابن جرير الطبري: الضمير عائد في {منه} إلى الكتاب: أي ما يكون من كتاب الله من قرآن، وأعاده تفخيماً له كقوله: {إنني أَنَا الله} [طه: 14]، والخطاب في {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} لرسول الله وللأمة، وقيل: الخطاب لكفار قريش {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُم شُهُوداً} استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال للمخاطبين: أي شهوداً عليكم بعمله منكم، والضمير. في {فيه} من قوله: {تُفِيضُونَ فِيهِ} عائد على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل: إذا اندفع فيه.
وقال الضحاك: الضمير في {فيه} عائد على القرآن. والمعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب.
قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} قرأ الكسائي {يعزب} بكسر الزاي، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان، ومعنى يعزب: يغيب، وقيل يبعد.
وقال ابن كيسان: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، و{من} في {مِن مّثْقَالِ} زائدة للتأكيد: أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة. أي: نملة حمراء، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء، لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات، وقدّم الأرض على السماء؛ لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب، والواو في {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ} لعطف على لفظ مثقال، وانتصبا لكونهما ممتنعين، ويجوز أن يكون العطف على ذرة؛ وقيل: انتصابهما بلا التي لنفي الجنس، والواو للاستئناف، وليس من متعلقات وما يعزب، وخبر لا {إِلاَّ فِى كتاب} والمعنى: ولا أصغر من مثقال الذرّة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين، فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر، ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال، ومحله الرفع، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله، أو على لفظ ذرّة إشكال، وهو أنه يصير تقدير الآية: لا يعزب عنه شيء في الأرض، ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال.
وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة، كخلق الملائكة والسموات والأرض؛ وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأوّل من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأوّل، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده، سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات، والغرض: الردّ على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات.
وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع: أي لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني أن {إلا} بمعنى الواو، على أن الكلام قد تمّ عند قوله: {وَلا أَكْبَرَ} ثم وقع الابتداء بقوله: {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} أي: وهو أيضاً في كتاب مبين. والعرب قد تضع إلا موضع الواو، ومنه قوله تعالى: {إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون * إَلاَّ مَن ظَلَمَ} [النمل: 10، 11] يعني: ومن ظلم، وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150] أي: والذين ظلموا، وقدّر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها، كما في قوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي: هي حطة، ومثله: {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة} [النساء: 171] {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
وقال الزجاج: إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع، وخبره: {إِلاَّ فِى كتاب} واختاره صاحب الكشاف، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس، واستشكل العطف بنحو ما قدّمنا.
ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء، وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين، وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين، فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الوليّ: في اللغة: القريب. والمراد بأولياء الله: خلص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته.
وقد فسر سبحانه، هؤلاء الأولياء بقوله: {الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي: يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه، والمراد بنفي الخوف عنهم: أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم؛ لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم، وحسن ظنّ بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب، لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره، فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهمّ والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة، ومحل الموصول النصب على أنه بدل من أولياء أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره لهم البشرى، فيكون غير متصل بما قبله، أو النصب أيضاً على المدح، أو على أنه وصف لأولياء.
قوله: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الآخرة} تفسير لمعنى كونهم أولياء الله: أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه، وينزله في كتبه، من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة، وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة؛ وأما البشرى في الآخرة، فتلقى الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب. والبشرى مصدر أريد به المبشر به، والظرفان في محل نصب على الحال: أي حال كونهم في الدنيا، وحال كونهم في الآخرة، ومعنى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} لا تغيير لأقواله على العموم، فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولاً أوّلياً، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين {هُوَ الفوز العظيم} الذي لا يقادر قدره، ولا يماثله غيره، والجملتان: أعني {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} و{ذلك هُوَ الفوز العظيم} اعتراض في آخر الكلام عند من يجوّزه، وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، أو الأولى: اعتراضية، والثانية: تذييلية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ} قال: هم أهل الشرك كانوا يحلون من الأنعام والحرث، ما شاءوا ويحرّمون ما شاءوا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} قال: إذ تفعلون.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، عن مجاهد، مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} قال: لا يغيب عنه وزن ذرّة {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} قال: هو الكتاب الذي عند الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله} قيل: من هم يا ربّ؟ قال: هم {الذين آمنوا وكانوا يتقون}.
وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: هم الذين إذا رؤوا ذكر الله.
وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، مرفوعاً وموقوفاً قال: هم الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم.
وأخرج عنه ابن المبارك، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه مرفوعاً، مثله.
وأخرجه ابن المبارك، وابن شيبة، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، مرفوعاً وهو مرسل.
وروي نحوه من طرق أخرى مرفوعاً وموقوفاً.
وأخرج أحمد، والحكيم الترمذي، عن عمرو بن الجموح، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحقّ العبد حقّ صريح الإيمان حتى يحبّ لله ويبغض لله، فإذا أحبّ لله وأبغض لله فقد استحقّ الولاء من الله، وإنّ أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم».
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: «خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباده المشاءون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون البرآء العنت».
وأخرج الحكيم الترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، ورغبكم في الآخرة عمله».
وأخرج الحكيم الترمذي، عن ابن عباس، مرفوعاً نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه، عن ابن عمر، مرفوعاً: «إن لله عباداً ليسوا بالأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه»، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا؟ قال: «قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل، تصافوا في الله وتحابوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم. يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»
وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. قال ابن كثير: وإسناده جيد.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
وأخرج أحمد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن أبي هريرة، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله} الآية فقال: «الذين يتحابون في الله».
وأخرج ابن مردويه، عن جابر، مرفوعاً مثله.
وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسنه، والحكيم في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مرودويه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن معنى قوله: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا} فقال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت عليّ: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له، فهي بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة»، وفي إسناده هذا الرجل المجهول.
وأخرج أبو داود الطيالسي، وأحمد، والدارمي، والترمذي، وابن ماجه، والحكيم الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا} قال: «هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له».
وأخرج أحمد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا} قال: «الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة، فمن رأى ذلك فليخبر بها» الحديث.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: «هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وفي الآخرة الجنة».
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن منده، من طريق أبي جعفر، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الحبيبة، وفي الآخرة ببشارة المؤمن عند الموت: إن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك.
وأخرج ابن مردويه، عنه، مرفوعاً مثل حديث جابر.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، مرفوعاً الشطر الأوّل من حديث جابر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن ابن عباس، مثله.
وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات، وأنها جزء من أجزاء النبوّة، ولكنها لم تقيد بتفسير هذه الآية.
وقد روي أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله: {وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} [الأحزاب: 47] أخرج ذلك ابن جرير، وابن المنذر، من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر، عنه، من طريق مقسم أنها قوله: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30].
وأخرج ابن جرير، والحاكم، والبيهقي عن نافع، قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله، فقال ابن عمر: لا تستطيع ذلك أنت ولا ابن الزبير، {لا تبديل لكلمات الله}.


قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ}: نهى للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن: للطعن عليه وتكذيبه، والقدح في دينه. والمقصود: التسلية له والتبشير. ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللاً لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي: الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه، ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له، فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة، وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً. وقرئ: {يحزنك} من أحزنه. وقرئ: {أن العزة} بفتح الهمزة على معنى، لأن العزّة لله، ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العزّة جميعها لله تعالى قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] لأن كل عزّة بالله، فهي: كلها لله. ومنه قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51].
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض} ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرّف فيهم كيف يشاء، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لكونهم أشرف. وفي الآية نعي على عباد البشر، والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا المملوك، وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء} والمعنى: أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله، فليست شركاء له على الحقيقة، لأن ذلك محال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] و{ما} في و{ما يتبع} نافية وشركاء مفعول يتبع، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً، والأصل: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة: إنما هي: أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول {يدعون} وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى: أيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، ويكون على هذا الوجه {شركاء} منصوباً ب {يدعون} والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم، والإزراء عليهم. ويجوز أن تكون {ما} موصولة معطوفة على {من في السموات}: أي لله من في السموات، ومن في الأرض، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؛ والمعنى: أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض. ثم زاد سبحانه في تأكيد الردّ عليهم، والدفع لأقوالهم، فقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يتبعون يقيناً إنما يتبعون ظناً، والظنّ لا يغني من الحق شيئاً {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي: يقدرون أنهم شركاء تقديراً باطلاً، وكذباً بحتاً، وقد تقدّمت هذه الآية في الأنعام.
ثم ذكر سبحانه طرفاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه، فقال: {هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} أي: جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين: أحدهما: مظلم وهو: الليل؛ لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب، ويريحون أنفسهم عن الكدّ والكسب. والآخر: مبصر، لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم، وتوفير معايشهم، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز. والمعنى: أنه مبصر صاحبه كقولهم: نهاره صائم، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إلى الجعل المذكور {لآيَاتٍ} عجيبة كثيرة {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها، ومن غيرها مما لم يذكره، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.
قوله: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه هُوَ الغني} هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولداً، فردّ ذلك عليهم بقوله: {سبحانه هُوَ الغني} فتنزّه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غنيّ عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب للحاجة. والغنيّ المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض، ليقوم الولد مقامه، والأزليّ القديم لا يفتقر إلى ذلك.
وقد تقدّم تفسير الآية في البقرة. ثم بالغ في الردّ عليهم بما هو كالبرهان، فقال: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} وإذا كان الكل له، وفي ملكه، فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوّة والأبوّة. ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال: {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} أي: ماعندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه، و{من} في: {مّن سلطان} زائدة للتأكيد، والجار والمجرور في {بهذا} متعلق إما بسلطان، لأنه بمعنى الحجة والبرهان، أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار. ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْمَلُونَ} ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه، ليس هو من العلم في شيء، بل من الجهل المحض.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يدلّ على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح، فقال: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} أي: كل مفتر هذا شأنه، ويدخل فيه هؤلاء دخولاً أوّلياً.
وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز. والمعنى: أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب. ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة، فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذاباً مؤبّداً. فيكون {متاع} خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفترى بافترائه ليس بفائدة يعتدّ بها، بل هو متاع يسير في الدنيا، يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله.
وقال الأخفش: إن التقدير: لهم متاع في الدنيا، فيكون المحذوف على هذا هو الخبر.
وقال الكسائي: التقدير ذلك متاع أو هو متاع، فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ}: لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم، كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الله فيما يعاتبه: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السميع العليم} يسمع ما يقولون ويعلمه، فلو شاء بعزّته لانتصر منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {والنهار مُبْصِراً} قال: منيراً.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} يقول: ما عندكم سلطان بهذا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6